روائع مختارة | قطوف إيمانية | في رحاب القرآن الكريم | تأملات في سورة الإخلاص

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > في رحاب القرآن الكريم > تأملات في سورة الإخلاص


  تأملات في سورة الإخلاص
     عدد مرات المشاهدة: 6041        عدد مرات الإرسال: 0

سورة مكية عظيمة تحدثت عن صفات الكمال لله تعالى، وأثبتت له الأحدية المطلقة المنزهة عن المماثلة في ذاته وصفاته وأفعاله، وردت على المفترين عليه جل وعلا الذين ينسبون إليه الولد والذرية من اليهود والنصارى ومشركي العرب، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

سبب نزولها:

جاء في سنن الترمذي عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله {قل هو الله أحد الله الصمد}. كما جاء عن ابن عباس: أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: صف لنا ربك الذي تعبد، فأنزل الله عز وجل: {قل هو الله أحد} فقال: «هذه صفة ربى عز وجل» [1].

فضلها:

1- تعدل ثلث القرآن:

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «احْشِدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ». فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ إِنِّي أُرَى هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ. ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلاَ إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» [2].

2- يبنى لقارئها بيت في الجنة:

عَنْ سَهْلِ بن مُعَاذِ بن أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن ْرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ بنى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: إِذًا نَسْتَكْثِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ» [3].

3- حراسة صاحبها وحفظه من الشرور بإذن الله:

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاحِلَتَهُ فِي غَزْوَةٍ إِذْ قَالَ «يَا عُقْبَةُ قُلْ». فَاسْتَمَعْتُ ثُمَّ قَالَ «يَا عُقْبَةُ قُلْ». فَاسْتَمَعْتُ فَقَالَهَا الثَّالِثَةَ فَقُلْتُ مَا أَقُولُ فَقَالَ «{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}». فَقَرَأَ السُّورَةَ حَتَّى خَتَمَهَا ثُمَّ قَرَأَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا ثُمَّ قَرَأَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا ثُمَّ قَالَ «مَا تَعَوَّذَ بِمِثْلِهِنَّ أَحَدٌ» [4].

4- حبها سبب لدخول الجنة:

«عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلا كَانَ يَلْزَمُ قِرَاءَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي الصَّلاةِ فِي كُلِّ سُورَةٍ وَهُوَ يَؤُمُّ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يُلْزِمُكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ: «حُبُّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» [5].

وغيرها من النصوص الدالة على فضلها العظيم وعلو مكانتها بين آيات الله في كتابه العزيز.

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}

خطاب من الله عز وجل موجه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام يأمره فيه بوصفه سبحانه بأكمل الصفات وأبلغ العبارات فالأحد: الذي لا مثيل له ولا ند ولا شريك، فهو أحد في صفاته، وأحد في ذاته، وأحد في وجوده، تفرد بالربوبية {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ..} [6]. وتفرد بالإلوهية {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [7]. وتفرد في الصفات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [8]. وهي تأتي أحيانًا بمعنى الواحد ولا فرق بينهما، يدل عليه قراءة ابن مسعود: قل هو الله الواحد [9].

{اللَّهُ الصَّمَدُ}

قال ابن عباس، ومجاهدُ والحسنُ وسعيد بن جبير: الصمد الذي لا جوف له.

قال الشعبي: الذي لا يأكل ولا يشرب.

وقال قتادة: الصمد الباقي بعد فناء خلقه. وقال عكرمة: الصمد الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي. وقال الربيع: الذي لا تعتريه الآفات. قال مقاتل بن حيان: الذي لا عيب فيه [10].

قال أبو وائلِ شقيقُ بن سلمة: هو السيد الذي قد انتهى سُؤدَده، وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع السؤدد [11].

هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب، تقول العرب: صمدت فلانًا أصمده صمْدًا بسكون الميم إذا قصدته، والمقصود: صمَد، بفتح الميم، وهو المعول عليه في التفسير، فمن كان متفردا بالكمال والإلوهية فيجب بأن يتصف بالصمدية فهي نتيجة للألوهية وملتحقة بها، لأنه إنما يعبد لكونه محتاجًا إليه دون العكس، فالصمدية نتيجة للإلوهية فهي مستأنفة أو مؤكدة.

{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}

جاءت لتنفي الولادة والمولودية عن الله سبحانه وتعالى ومكملة لسابقاتها المثبتة للتفرد، لأن الولادة تقتضى انفصال مادة منه سبحانه وذلك يقتضى التركيب المنافي للصمدية والأحدية، أو لأن الولد من جنس أبيه ولا يجانسه سبحانه تعالى أحد لأنه سبحانه واجب وغيره ممكن لأن الولد على ما قيل يطلبه العاقل إما لإعانته أو ليخلفه بعده وهو سبحانه دائم باق غير محتاج إلى شيء من ذلك والاقتصار على الماضي دون أن يقال لن يلد لوروده ردًّا على من قال من المشركين أن الملائكة بنات الله، أو اليهود الذين قالوا {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، أو النصارى الذين قالوا {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ويجوز أن يكون المراد استمرار النفي وعبّر بالماضي لمشاكلة قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ} وهو لابد أن يكون بصيغة الماضي ونفى المولودية عنه سبحانه لاقتضائها المادة فيلزم التركيب المنافي للغنى المطلق والأحدية الحقيقية أو لاقتضائها سيق العدم ولو بالذات أو لاقتضائها المجانسة المستحيلة.

ولأن الولد لا يكون إِلا لمن له زوجة، والله تعالى ليس له زوجة وإِليه الإِشارة بقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}؟!

وجاء في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّى لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا» [12]

وإنما سماه شتمًا لما فيه من التنقيص لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه ويستلزم ذلك سبق النكاح والناكح يستدعي باعثًا له على ذلك والله منزه عن كل ذلك قال الطيبي: ومما في التكذيب والشتم من الفظاعة والهول أن المكذب منكر للحشر يجعل الله كاذبًا والقرآن المجيد الذي هو مشحون بإثباته مفترى ويجعل حكمة الله في خلقه السماء والأرض عبثا والشاتم يحاول إزالة المخلوقات بأسرها ويزاول تخريب السماوات من أصلها [13].

وقد خص الله ابن آدم في هذا الخطاب دون سائر خلقه لجرأته على الله وافتراءه تلك الفرية العظيمة، بل إن تلك المخلوقات الأخرى لتنتفض وترتعش وترتجف من سماع تلك القولة النابية، والمساس بقداسة الذات العلية، كما ينتفض كل عضو وكل جارحة عندما يغضب الإنسان للمساس بكرامته أو كرامة من يحبه ويوقره، هذه الانتفاضة الكونية للكلمة النابية تشترك فيها السماوات والأرض والجبال، كما قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [14] وقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} بيان لفظاعة هذا الافتراء وشناعته. والإد والإدة: الداهية والأمر الفظيع والمادة تدل على الشدة والثقل، والمعنى: لقد جئتم شيئا منكرا عظيمًا شديدا في فظاعته وجرمه. وبين أثر هذا الافتراء، وفظاعة شأنه في البهتان والهول والشدة في قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [15].

إن السموات والأرض والجبال وهي من أعظم مكونات هذا الكون لتكاد تنشق وتتصدع وتنهار سريعًا استعظامًا لتلك الفرية {أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} وتهويلا لها.

هذا هو أثر تلك الفرية الشنعاء، وذلك هولها بحيث لو تصورت بصورة محسوسة لم تطق تلك الأجرام الهائلة، وتفتتت من شدتها، ولِمَ نتخيل هذا؟ أو ليست تلك الانفجارات البركانية، والزلازل المدمرة والرياح المخربة، والأعاصير القاتلة تعبيرًا عن رفض تلك المخلوقات لظلم الإنسان وتألهه وتجبره ومبارزة ربه بالمعاصي والذنوب؟

فيا عجبًا لأناس افتتنوا واغتروا بحضارة زائفة، ومقالة خرقاء، استجابوا فيها لنداء الشيطان ومكره، وصدوا بها عن طاعة الرحمان ومغفرته، لقد تأثر هؤلاء بما يرونه في الأمد القصير المحدود، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم؛ إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام؛ فيحسبونه شحمًا وسمنة وعافية وصحة. والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط!

أخذوا يطالبون بإقامة شعائر المشركين في بلاد الإسلام بدعوى حقوق الإنسان، ويطالبون ببناء كنائسهم ومعابدهم بدعوى حرية الأديان، إننا نسوق إليهم هذه الآيات وتلك العبر لتهز ضمائرهم هزًّا عنيفًا لعلهم يفيقون من غفلتهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويتراجعون عن قولهم، ويصححون عقيدتهم، من قبل أن يأتي يوم {لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} [16].

ألم يأتهم نبأ نبي هذه الأمة عليه الصلاة والسلام، لقد أمر عليه السلام أصحابه ومن تبعهم بإخراج كل من ينحل غير الإسلام دينًا من قلعة الإسلام وموطنه جزيرة العرب، فقال عليه الصلاة والسلام: «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [17]. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يبقين دينان بأرض العرب» [18].

وقال عليه الصلاة والسلام: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما» [19]

ولكن المنية أدركته عليه الصلاة والسلام قبل إنفاذ قوله، فقام بإنفاذه من بعده الخليفة الراشد الثاني الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.

إن هذه النصوص تبين حرصه عليه الصلاة والسلام على إبعاد المسلمين عن أهل الكتاب في التجاور والمخالطة، وفي التعاون والتبادل؛ ليبقى المسلم متميزًا بذاته ومنهجه وشعائره، وعلى هذا لا ينبغي مخالطتهم حتى بتبادل الأواني والزيارات، والاحتكاك، ولذا قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب؛ فإن كل أمة خالطت أمة أخرى لابد وأن تدخل تلك الأمة بعاداتها وتقاليدها ولغاتها في الأمة الأخرى؛ فيحصل التجريح في اللغات، ويقع اللحن في اللهجات، والتقليد في العادات، ويؤخذ من هذه إلى تلك، ومن تلك إلى هذه؛ فيقع الاشتراك في المناهج في الحياة، وإذا طال الزمن بهذا الاشتراك انماعت إحدى الأمتين في الأخرى، والذي يتتبع أخبار العالم الإسلامي مع العالم الغربي منذ عهد الاستعمار وما فعله في العالم الإسلامي، فإننا نجد حينما تدخل أمة مستعمرة بقوتها، فإنها تحارب أولًا اللغة والدين والتقاليد والعادات، وأول ما تدعو إليه: انصهار الأمة المستعمَرة صاحبة البلد الأساسي في بوتقة المستعمِرة الغاصبة؛ فتصبغ عليها زيها، وتفرض عليها لغتها، وجميع أنواع حياتها، ولقد وجدنا في الآونة الأخيرة أقطارًا ودولًا لغتها الأصلية العربية، ثم إذا بها تنسلخ عنها، بل وتكتب لغتها المحلية بالحروف اللاتينية ربطًا لها بلغة الدولة المستعمِرة؛ ليلغى من أذهانهم العربية بالكلية، وإذا انسلخت الأمة المسلمة من اللغة العربية فما الذي يربطها بكتاب الله الذي قال الله فيه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [20] [21].

ثم إننا نُفتح أبصار هؤلاء الذين يطالبون ببناء معابد للمشركين وكنائس في عقر دار الإسلام ومنشئه، ونوعي قلوبهم بما يحصل للمسلمين الذين يقيمون في بلاد الكفر ويحاولون مزاولة دينهم في بلاد تدعي الحرية وتبني لها الصروح، فالمسلمون اليوم يواجهون في أوروبا مقاومة لخطط بناء مساجد تتناسب مع وضع الإسلام كونه ثاني ديانة في القارة. وفي شتى أنحاء أوروبا يصلي المسلمون منذ فترة طويلة في مواقف السيارات المغطاة والمصانع القديمة والآن يواجهون تشككا وقلقا لرغبتهم في بناء مساجد ملائمة. ويرفض بعض المنتقدين بناء مساجد وينظرون إليها على أنها إشارات على الأسلمة. ويقول آخرون إن المآذن ستشوه صورة الأفق في مدنهم!. ومع وضع الاتهام الموجه لبعض المساجد كمراكز للإرهابيين في الأذهان ينظر آخرون إلى المساجد على أنها تهديد أمني محتمل.

وليس ذلك فحسب فالهجر والقتل والتهديد لكل من يفكر ببناء مسجد أو حتى مجرد الجهر برفع صوت الأذان خارج حدود المسجد، أو حتى من يؤيد ذلك من غير المسلمين بل ومن أعلام ديانتهم، فبحسب صحيفة دايلي تليجراف البريطانية تلقى أسقف كنيسة أكسفورد البريطانية جون برتشارد تهديدات بالقتل ورسائل تحث على الكراهية بسبب تأييده لمطلب مسلمي المدينة برفع الأذان، وقال ذلك الأسقف الذي تجاوز عمره الستين لتلك الصحيفة: لقد تلقيت رسائل إلكترونية غير عادية، تكشف عن الوجه المظلم للمجتمع البريطاني. ومنذ ذلك الحين أصبح بريتشارد هدفًا لمطالبات بالاستقالة ورسائل كراهية وتهديدات بالقتل.

وفي دولة أخرى أعلنت مبدأ الدفاع عن الحرية رمزًا لها، وشيدت له تمثالًا يحمل وراءه كل خبث ومكر وأسمته بذلك الرمز، وترفع صوتها وتدس سمها وتستبد شعوبًا بتلك الدعوة، أثار حفيظة سكان تلك الدولة وأخرج حقدهم الدفين صوت المؤذن: الله أكبر.. الله أكبر، في واحدة من أبرز شعائر الإسلام، لكن هذا الأذان الذي لا يستغرق سوى دقيقتين ويتكرر خمس مرات يوميا أثار اعتراضات عدد من السكان بمدينة كنزنجتون الأمريكية.

فقد أثار الأذان الجدل في المدينة، فهو يمثل حرية دينية من وجهة نظر الكثيرين، لكن البعض يرون أنه ينتهك حقهم في الاستمتاع بالهدوء؛ حيث اشتكى بعض السكان من صوت الأذان. فاضطر إمام ذلك المسجد إلى اتخاذ إجراءات استجابة للشكاوى السابقة، وقام بالفعل بإجراء بعض التعديلات، حيث قال: إنه قد تم إزالة أحد مكبري الصوت، كما تم تعديل توجيه مكبر الصوت الآخر، وقال إن المسجد توقف عن رفع الأذان من خلال مكبر الصوت في صلاة الفجر؛ احترامًا للجيران.

فهاهم المسلمون يعانون أشد المعاناة من إنشاء مساجد في دول المهجر التي يعيشون فيها وهم يمثلون ثاني أكبر ديانة في تلك البلاد وعددهم كبير وفي ازدياد، ويشغلون مناصبًا ونسبة كبيرة من الأيدي العاملة، ومع ذلك كله ليس لهم الحق في إظهار شعائر دينهم وبناء المساجد لذلك!. وكل ذلك بسبب القوانين التي تضعها تلك الدول والتي هي تعادي وتندد بديانة الإسلام، بدعوة الحرية؟ وعدم إزعاج سكان تلك البلاد!

ونحن أيضًا في بلاد الإسلام نقف موقف الند ونطالب باحترام حريتنا كمسلمين واحترام شعائر ديننا الحنيف، ونتمسك أيضًا بأداء حق الله على عباده كما جاء في الحديث الذي يرويه معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ بن جبل! هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» [22]. ونرفض بشدة أن يشرك بالله تعالى في أرضه أو بأن تدق نواقيس تلك الكنائس التي تجاهر بالكفر عيانًا في بلادنا طاعنة بتوحيد الله عز وجل أمام أعيننا وبمسمع من آذاننا.

هذا تأمل في سورة عظيمة، فضلها كبير، نزل بها الروح الأمين فأودعها صدر البشير النذير، ليبلغها للمؤمنين والمؤمنات، ليتدبروها ويستخلصوا منها أعظم العبر وأبلغ العظات، وصدق الله القائل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [23].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

----------------

[1] أخرجه أحمد (5/ 133 حديث رقم 21538) والترمذي (1/ 13 حديث رقم 3364) وقال عنه الحافظ ابن حجر في الفتح إسناده حسن (فتح الباري13/ 356).

[2] مسلم (2/ 199 حديث رقم 812) والترمذي (5/ 24 حديث رقم 2900).

[3] أخرجه أحمد (3/ 437، رقم 15648) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (6472).

[4] النسائي (8/ 250 رقم 5430) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (7950).

[5] وأخرجه البخاريّ (2/ 255) معلقًا ووصله الترمذيُّ (2901) عن إسماعيل بن أبي أويس وصححه الحاكم على شرط مسلم.

[6] الرعد (16).

[7] آل عمرا ن (2).

[8] الشورى (11).

[9] تفسير البغوي (8/ 588).

[10] المصدر السابق

[11] أخرجه عبد الرزاق في التفسير (2/ 407) والطبري (30/ 346).

[12] البخاري (6/ 19 حديث رقم (4482).

[13] فيض القدير (4/ 473).

[14] مريم (88/ 91).

[15] مريم (91)

[16] الشورى من الآية (47).

[17] أخرجه أحمد (1/ 195، رقم 1691، 1694، 1/ 196، رقم 1699)، وأبو يعلى (2/ 177، رقم 872). قال الهيثمي (5/ 325): رواه أحمد بأسانيد، ورجال طريقين منها ثقات متصل إسنادهما. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 385)، وابن عساكر (25/ 436)، والضياء (3/ 319، رقم 1122) وانظر السلسلة (3/ 124).

[18] أخرجه البيهقي (9/ 208، رقم 18529) وانظر صحيح الجامع حديث رقم (4617).

[19] أخرجه مسلم (5/ 160) وأبو داود (2/ 43) والترمذي (2/ 398).

[20] يوسف (2).

[21] شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم (1/ 59) بتصرف.

[22] أخرجه أحمد (5/ 242، رقم 22149)، والبخاري (5/ 2224، رقم 5622)، ومسلم (1/ 58، رقم 30)، والترمذي (5/ 26، رقم 2643) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (2/ 1435، رقم 4296)، وابن حبان (2/ 82، رقم 362). وأخرجه أيضًا: النسائي في الكبرى (6/ 55، رقم 10014). وانظر صحيح الجامع حديث رقم (7968).

[23] محمد من الآية (24).

الكاتب: صالح بن صبحي القيم.

المصدر: موقع رسالة الإسلام.